Website logo
۱۴۴۶/۰۹/۰۶ - 15:33
مشاهده ۱۴۶

مقال الدكتور سيد عباس عراقجي، وزير الخارجية، في صحيفة اطلاعات:

الارتباك في البيت الأبيض؛ الدوار في السياسة العالمية

السياسة ليست لعبة بسيطة. أحيانًا يمكن لاجتماع رسمي واحد أن يكشف عن حقائق دفينة في قلب موازين القوة أكثر من مئات البيانات الدبلوماسية. لم تكن المشادة الأخيرة في البيت الأبيض بين دونالد ترامب، جي دي فانس، وفولوديمير زيلينسكي مجرد خلاف عابر؛ بل أزاحت الستار عن انقسامات عميقة تتسع داخل النظام الدولي. هناك تكهنات عديدة حول هذه الحادثة. هل كان هذا الصدام مخططًا له عمدًا؟ أم أنه خرج عن السيطرة؟ هل كان الهدف إرسال رسائل داخلية وخارجية، أم أن ما حدث يعكس فشل آليات التنسيق في السياسة الخارجية الأمريكية؟ ما هو مؤكد، أن هذه الواقعة قدمت صورة لعالم مضطرب لم تعد تُتخذ فيه القرارات في فراغ.

الأزمة في قلب القوة الغربية

لطالما قدمت واشنطن نفسها على أنها مركز صنع القرار في العالم الغربي. ولكن اليوم، لم يعد هذا المركز محصنًا من التحديات. المشادة التي وقعت داخل البيت الأبيض تعد رمزًا للشكوك الاستراتيجية، والضبابية الدبلوماسية، والخلافات العميقة داخل المعسكر الغربي. جاءت إدارة ترامب إلى المشهد العالمي تحت شعار إعادة "السلام السريع"، وهو وعدٌ رآه الكثيرون مفرطًا في التفاؤل. لكن هذا الوعد بات الآن يشكل ضغطًا إضافيًا على الرئيس الأمريكي ونائبه. يواجه ترامب وفانس تحديًا حقيقيًا: هل سيتمكنان من الوفاء بالتزاماتهما في ظل أوضاع أصبحت فيها الحرب تمثل مصلحة لكثير من الأطراف الفاعلة؟

أوكرانيا: من التبعية إلى التمرد

إحدى الرسائل المهمة التي حملتها هذه المشادة هي التغيير في مكانة أوكرانيا داخل معادلات القوة. ففي الأيام الأولى للحرب، كان زيلينسكي يعتمد بشكل غير مسبوق على المساعدات الغربية، لكنه اليوم يقف في قلب البيت الأبيض ويواجه الرئيس الأمريكي بردّ حاد. هذه الواقعة تؤكد أن حتى الدول التي تلقت دعمًا طويل الأمد من واشنطن لم تعد تقبل بأن تُعامل بفوقية. سواء كانت أوكرانيا لاعبًا مستقلًا أو مجرد ورقة في رقعة شطرنج القوى الكبرى، فقد أظهرت أنها مستعدة لدفع الثمن من أجل الحفاظ على كرامتها وموقعها.

أوروبا وظلال الانقسامات الجديدة

السؤال الأكبر هنا هو كيف ستتفاعل أوروبا؟ هل ستظل القارة موحدة في دعمها لأوكرانيا، أم أن هذه المشادة ستكشف عن انقسامات أعمق داخل المعسكر الغربي؟ منذ بداية الحرب، اتخذت فرنسا وألمانيا وحلفاء أوروبيون آخرون مواقف أكثر حذرًا. كانت هناك اختلافات في السياسات الدفاعية والأمنية منذ البداية، والآن، بعد التصعيد اللفظي بين قادة البيت الأبيض وزيلينسكي، أصبحت هذه التباينات أكثر وضوحًا. الأوروبيون الذين تعاملوا بحذر مع تطورات شرق أوروبا يواجهون الآن سؤالًا جوهريًا: هل لا تزال واشنطن تمتلك القوة والإرادة لقيادة جبهة الغرب الموحدة؟

موسكو: مراقِب أم مُخطِّط؟

تابعت موسكو هذا الحدث عن كثب. لطالما اعتقدت روسيا أن وحدة الغرب هشّة ومليئة بالتوترات، والمشادة الأخيرة في البيت الأبيض جاءت لتؤكد هذا السرد الذي يروّجه الكرملين بأن المعسكر المقابل أكثر اضطرابًا مما يبدو. لكن، وبعيدًا عن مجرد المراقبة، لم تعد موسكو لاعبًا سلبيًا.

لقد منحت حرب أوكرانيا والتطورات الأخيرة روسيا فرصة لإعادة صياغة استراتيجيتها بدقة أكبر على عدة جبهات. فمن جهة، تتوسع الشراكة الاستراتيجية بين موسكو وبكين بشكل متزايد، ومن جهة أخرى، يسعى الكرملين إلى إعادة تشكيل ميزان القوى على المستوى الدولي من خلال تعزيز علاقاته مع الدول النامية. ويبرز هذا التوجه في زيادة التبادل الاقتصادي مع دول البريكس، وتوسيع التعاون الأمني مع الشركاء الإقليميين، والسعي إلى تقليل الاعتماد على النظام المالي الغربي، مما يعكس النهج الذي تتبناه موسكو في مواجهة التحولات العالمية.

في هذا السياق، شهدت ديناميكيات العلاقات بين روسيا وأوروبا تغيرًا ملحوظًا. فقد تبنّت بعض الدول الأوروبية، مثل المجر وسلوفاكيا، مواقف أكثر استقلالية تجاه موسكو، وأبدت مقاومة للسياسات المناهضة لروسيا التي تفرضها بروكسل. هذه الانقسامات قد تشكل نقطة ضعف في تماسك المعسكر الغربي، وهو أمر قد تستغله روسيا لصالحها لتعزيز نفوذها على الساحة الدولية.

عندما تلقي السياسة الداخلية بظلالها على الدبلوماسية

إحدى أهم القضايا التي كشفتها هذه المشادة هي التداخل العميق بين السياسة الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. فبينما يُفترض أن يركز ترامب وفانس على التحديات الدولية، يجدان نفسيهما غارقين في المشهد السياسي الداخلي المتوتر. فمع اقتراب الانتخابات، واشتداد المنافسة الحزبية، وتزايد الضغوط الداخلية، باتت العديد من القرارات الدبلوماسية الكبرى تتأثر بالاعتبارات الداخلية أكثر من المصالح الاستراتيجية.

هذا الوضع لا يمثل تحديًا لأمريكا فحسب، بل يشكل أيضًا أزمة لحلفائها، حيث تصبح القدرة على التنبؤ بالسياسة الخارجية الأمريكية أكثر صعوبة في مثل هذه الظروف.

إيران: نهج الحكمة والتدبير، واختيار الاستقلال بوعي

في ظل هذا المشهد المضطرب، تتابع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التطورات بدقة وتدبير. فالاضطراب في السياسة الدولية يهدد دائمًا الاستقرار والأمن العالمي. وعلى عكس العديد من الفاعلين المنخرطين في توترات كلامية وسياسات متسرعة، ظلت إيران متمسكة بمبادئها القائمة على الاستقلال، والاحترام المتبادل، وتجنب الانخراط في الخطابات غير البنّاءة.

لكن استقلال إيران لم يكن صدفة أو نتيجة لظروف مفروضة، بل كان خيارًا واعيًا، وقرارًا استراتيجيًا، ومبدأ ثابتًا في سياستها الخارجية. فعلى عكس بعض الدول التي بحثت عن أمنها واستقرارها في التبعية للقوى الخارجية، أدركت إيران منذ زمن بعيد أن التبعية لا تؤدي إلا إلى عدم الاستقرار وفقدان السيادة الوطنية. فالأمن الحقيقي لا يتحقق عبر دعم القوى العابرة للإقليم، بل ينبع من القدرات الداخلية، والاستفادة من الإمكانات الوطنية، والاعتماد على الشعب.

لهذا السبب، اختارت إيران مسارًا مختلفًا؛ مسارًا لا يكون فيه مصير البلاد مرهونًا بقرارات الآخرين، بل تُصاغ سياساتها وفقًا للمصالح الوطنية، وليس تحت تأثير الإملاءات الخارجية.

الحفاظ على الاستقلال له ثمن، وإيران دفعت هذا الثمن دائمًا. فمنذ الأيام الأولى للثورة الإسلامية، فُرضت عليها ضغوط اقتصادية وعقوبات وتهديدات عسكرية وحروب بالوكالة، وكل ذلك بهدف تحويلها إلى لاعب تابع في النظام الدولي. لكن، وعلى عكس ما توقع خصومها، صمدت إيران، وأثبتت أنها لا تستسلم أمام الضغوط، بل تعتمد على إمكاناتها الداخلية لمواصلة مسيرتها في التنمية والتقدم.

لقد أصبح هذا الخيار الواعي مبدأ ثابتًا: إيران لا تشتري أمنها، بل تصنعه. لسنا بحاجة إلى الاعتماد على الآخرين لحمايتنا، بل ندافع عن أنفسنا من خلال المعرفة والقوة والقدرات الوطنية.

لقد أظهرت التجارب التاريخية أن الدول التي اعتمدت أمنها على التبعية للآخرين أصبحت ضحية لتغيير أولويات القوى الداعمة لها في اللحظات الحساسة. يمكن ملاحظة أمثلة عديدة لذلك في جميع أنحاء العالم؛ حيث قامت حكومات بتنسيق سياساتها على أمل ضمانات أمنية من القوى الكبرى، لكنها في النهاية تُركت وحيدة في أوقات التحديات الكبيرة. لكن إيران تعلمت جيدًا هذا الدرس التاريخي. فالإستقلال ليس مجرد شعار، بل ضرورة لا مفر منها.

هذه الرؤية هي التي جعلت إيران في سياستها الخارجية لا تعول على الوعود الخارجية، ولا تتزعزع أمام تهديدات أعدائها.

بينما ربط العديد من الفاعلين الدوليين أمنهم برابطات هشة ومؤقتة، اختارت إيران مسارًا مختلفًا: مسارًا يعتمد على التوكل على القدرات الداخلية، والتقدم المستقل، والمقاومة أمام الضغوط الخارجية. لا تحتاج إيران إلى الحصول على شرعيتها من تأكيد الآخرين، لأن شرعيتها تنبع من إرادة الشعب والسياسات المستقلة التي تنتهجها.

لقد اختارت إيران منذ سنوات طويلة مسارها الخاص، مسارًا لا يعتمد فيه على الدعم المشروط من القوى العالمية، ولا على الوعود الدبلوماسية الهشة، ولا على التهديدات الخارجية في اتخاذ القرارات. ما يهم إيران هو الحفاظ على الاستقلال، وتعزيز القوة الداخلية، والتحرك في مسار ينبثق من المصالح الوطنية. في عالم تتصارع فيه القوى الكبرى يومًا بعد يوم في مشاجرات وتنافسات غير مستقرة، أثبتت إيران من خلال استقرار سياساتها أن الاعتماد على الآخرين ليس فقط خطرًا، بل هو خطأ استراتيجي.

هذا هو نفس الدرس الذي علمتنا إياه التاريخ مرارا وتكرارا، ونحن لم نحفظه فحسب، بل سننقله أيضًا إلى الأجيال القادمة.

متن دیدگاه
نظرات کاربران
تاکنون نظری ثبت نشده است