إن الاهتمام بالقضایا المهمة ذات الخلفیة التاریخیة والتأثیر العمیق على مصیرنا ومصیر الأجیال القادمة ضرورة لا غنى عنها لتصویب السیاسات وتعدیل التوجهات وفی النهایة، تغییر الأداء. من هنا، ینبغی اغتنام الفرصة للحدیث عن موضوع مهم مثل مصیر المجتمعات الإیرانیة التی نشأت خارج  حدود الوطن الأم. إذا ألقینا نظرة على صفحات التاریخ، فسنعرف الأسباب التی دفعت جموعاً غفیرة من المثقفین والأدباء والعلماء إلى التوجه نحو الهند فی العهد الصفوی؛ رجال عظماء من آبائنا أسسوا لترویج الثقافة الإیرانیة والهویة الدینیة واللغة الفارسیة فی بلاط ملوک المغول فی الهند. أخذ مجتمع الإیرانیین فی الهند شکلاً جدیداً على وقع هذه الهجرة التاریخیة وترک تأثیراً عمیقاً على مصیر إیران فی الزمن المعاصر. لقرون متتالیة امتدت حتى بسْط بریطانیا هیمنتها الاستعماریة على شبه القارة الهندیة، کان لذلک المجتمع المهاجر إلى الهند الدور الأساس فی إرساء معظم الأواصر الثقافیة والتبادلات التجاریة والاتصالات السیاسیة لبلادنا؛ الأمر الذی تسبب فی مضی إیران والهند، الدولتین القویتین، قدماً على درب بناء الحضارة. فلم یکن قادة الهند فی حینها یرون فی عاصمة إیران، إصفهان، ملجأ لهم بدون سبب. وبالتزامن مع انطلاق الهجرة نحو الشرق، توجه رجال دین إیرانیون إلى الیمن ومهّدوا عبر التواصل والترابط مع الشیعة الزیدیة لاستمراریة التبادلات التاریخیة الموغلة فی القدم بین إیران والیمن. وهناک إیرانیون آخرون ترکوا بصمات قویة خارج حدود وطنهم؛ الذین بادروا بتشیید مدن وأماکن فی آسیا الوسطى (ما وراء النهر) لعرض جوانب من الإبداع الفنی الإیرانی آنذاک. وقد وطّد حضور هؤلاء الإیرانیین أواصر الصلة وجذور المودة بین سکان إیران وأهالی إقلیم خراسان التاریخی. کما کان للإیرانیین دور فرید فی ماوراء النهر على مر القرن 18 حتى أواسط القرن 19 المیلادی فی تطویر التجارة وتوفیر بیئة مؤاتیة للرقی الثقافی فی تلک المنطقة. بموازاة هذه التطورات فی مناطق شرق إیران خلال تلک الحقبة، لم تکن مناطق الغرب وشمال الغرب، خاصة العتبات المقدسة الشیعیة فی العراق، بعیدة عن الهجرات التاریخیة للإیرانیین. فحتى عندما اختُطفت القوقاز من حضن إیران نتیجة غزو قوات روسیا القیصریة، لم یغیر ذلک شیئاً من مدى حضور القومیات الإیرانیة فی تلک البقعة الجغرافیة. فکان إیرانیو القوقاز ضمان دیمومة الثقافة والهویة الإسلامیة والإیرانیة والشیعیة فی تلک المنطقة خلال أصعب حقب تغییر نسیجها السیاسی – الاجتماعی فی العهد القیصری والتی أدت إلى تحولات فی هویتها ودینها. فضلاً عن ذلک، کان هؤلاء أنصاراً مخلصین لأهل الإسلام وقوة فاعلة لإیران. منذ النصف الثانی للقرن 18 حتى نهایة القرن 19 المیلادی، انتشرت تجمعات إیرانیة متناثرة لکن کبیرة الأعداد فی أرجاء المناطق الواقعة غرب إیران بدءاً من طرابزون مروراً بالنجف وکربلاء وصولاً إلى مصر والسودان وأوروبا المرکزیة. تشیر التقاریر الموجودة إلى حجم لافت من مختلف أنواع التبادلات التی سمحت استمراریتها وانتشارها بأن تجتاز إیران بسلامة تلک السنوات العصیبة التی شهدت: - فرض حصار وممارسة ضغوط من الشمال والجنوب على ید القوتین الاستعماریتین الکبیرتین فی حینها؛ - وکوارث طبیعیة مثل الجفاف والزلزال؛ - ومشاکل اقتصادیة مثل المجاعة؛ - وجوائح متتالیة مثل الطاعون والکولیرا. أوجدت الحرب العالمیة تغییرات کبیرة فی الترتیبات الأمنیة والسیاسیة للعالم آنذاک وغیرت مسیر موجات الهجرة، واقتربت مقاصد الهجرة البعیدة، وبالتالی انتشرت المجتمعات الإیرانیة فی أقصى أرکان العالم. وکانت النتیجة إنشاء خط ملاحی من میناء هامبورغ إلى أنزلی فی الشمال وربط إیران بشرق وغرب العالم عبر شواطئ وموانئ الخلیج الفارسی. أدت هذه الظروف إلى زیادة نطاق الحضور الدبلوماسی الإیرانی عشیة التطورات العالمیة، کما أدى دور الرعایا الإیرانیین وحضورهم إلى التنوع فی العلاقات واتساع رقعتها. على الرغم من أن طریق الهجرة من إیران قد استمر على مدار المائة عام الماضیة، إلا أن الهجرة فی هذه الأیام لا تعنی الانفصال عن الهویة والقیم الثقافیة والحضاریة الإیرانیة. فقد حافظ الإیرانیون المهاجرون، سواء تلقوا دعماً من الحکومات أو لم یتلقوه، على لغتهم الأم وثقافتهم ومعتقداتهم فضلاً عن أنهم قد قدموا أیضاً مجموعة متنوعة من الأسالیب والنماذج الثقافیة للتاریخ الإیرانی واللغة الفارسیة. مع انتصار الثورة الإسلامیة للشعب الإیرانی فی فبرایر 1979، بدأ فصل جدید من الاتصالات والتبادلات مع المجتمع الإیرانی خارج البلاد، على الرغم من أنه فی البدایة بسبب کثافة الدعایة الإعلامیة الغربیة، لم تکن هناک آلیة مناسبة لتحقیق هذه الاتصالات، ولکن بسبب الشعور الوطنی المشترک الذی جاء نتیجة هجوم النظام البعثی الصدامی ضد أراضی الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، فإن هذه الاتصالات أخذت شکلاً وصورة أخرى. ظهرت آنذاک حرکة دینامیکیة بین النخب الإیرانیة فی الخارج، والتی تجسدت من خلال استقبالها وعلاجها لجرحى الهجمات الکیماویة للجیش البعثی، وکذلک قیامها بمبادرات بناءة تهدف إلى توضیح الحقائق المرتبطة بإیران أمام أعین الإعلام الغربی. بعد سنوات الدفاع المقدس الصعبة والمشرفة، استطاعت شبکة النخب الإیرانیة بهذه المبادرات أن تکمل الاقتصاد الوطنی للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة. الیوم؛ ترکز الحکومة الثالثة عشرة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة، على ضوء السیاسة الخارجیة المتوازنة والدبلوماسیة الحیویة والذکیة، على «التعاون مع جیرانها وتعزیز الدبلوماسیة الاقتصادیة»، وهی عازمة على فتح الباب أمام التعاون الإقلیمی أکثر من أی وقت مضى. ویمکن لشبکة المجتمع الإیرانی خارج البلاد أن تلعب دوراً مهماً فی هذا السبیل. أود أن أؤکد أن وزارة الشؤون الخارجیة ترکز على تقدیم التسهیلات للجالیة الإیرانیة القاطنة خارج البلاد بصدرٍ رحب. ویعتبر منح الأولویة لزیادة مستوى الاتصالات الثقافیة والتبادل الاجتماعی إحدى خطط الدبلوماسیة العامة لوزارة الشؤون الخارجیة وتنفذ حالیاً بمبادرات جدیدة ومبتکرة. فی هذا السیاق إن عقد الاجتماع الأول للمجلس الأعلى للإیرانیین فی الخارج قریباً برئاسة فخامة رئیس الجمهوریة، یبشّر بمستقبل مشرق نحو ترسیخ العلاقات بین الإیرانیین فی الخارج ووطنهم الأم. فی ظل هذه النظرة الشاملة، نشیر فیما یلی إلى أهم الخطوات المؤثرة التی ینبغی القیام بها: - عرض الخدمات والتسهیلات القنصلیة بشکل سلس؛ - ضمان التنقل المستمر وغیر المقلق لأبناء الجالیة الإیرانیة فی الخارج؛ - إحداث تغییر فی القوانین المرتبطة بمنح الجنسیة الإیرانیة للأبناء المولودین من أمهات إیرانیات؛ - تسهیل تقدیم الخدمات المالیة – المصرفیة للجالیة الإیرانیة البعیدة عن الوطن؛ - تسویة المشاکل والدعاوى القانونیة من خلال أنظمة الاتصال الآمنة خلال الظروف الناتجة عن جائحة کورونا لتقلیل المخاوف الناشئة عن تسجیل واقعات الأحوال المدنیة الأربعة (الولادة والوفاة والزواج والطلاق) للجالیة الإیرانیة فی الخارج الذین لا یمکنهم المجیء إلى البلاد أو یشکل ذلک خطراً لهم بسبب احتمال الإصابة بالأمراض الشائعة لجائحة کورونا. کما أن تأکید رئیس الجمهوریة على صیاغة قانون شامل لحمایة الإیرانیین فی الخارج بمساعدة مجلس الشورى الإسلامی یعد خطوة مهمة سیتم اتخاذها فی الاجتماع المقبل للمجلس الأعلى للإیرانیین فی الخارج. إن السیاسة الخارجیة للجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة فی الحکومة الثالثة عشرة ترتکز على التعاون والتعاطف مع جمیع أبناء الشعب الإیرانی، سواء القاطنین فی داخل البلاد أو خارجها. کما أننا على استعداد تام لاتخاذ خطوات أساسیة وسریعة نحو تحقیق التعاون الإقلیمی مع الشعوب المتآصرة معنا التی تعیش فی البلدان المجاورة لنا والتی جمعنا معها إطار ثقافی وحضاری مشترک خلال قرون عدیدة. لذلک، من الضروری أن یبادر قسم الدراسات والأبحاث فی وزارة الشؤون الخارجیة إلى تدوین عناوین جدیدة لمشاریع بحثیة تطبیقیة فی مختلف قضایا ومشاکل المجتمعات الإیرانیة فی الخارج ومن ثم مشارکة النتائج مع المؤسسات المتخصصة الأخرى فی الحکومة والبرلمان لإعداد المشاریع واللوائح القانونیة بهذا الشأن. إننی وبفضل الله سبحانه وتعالى سأستخدم کل طاقات وإمکانیات الجهاز الدبلوماسی من أجل تحقیق هذا الهدف، وآمل أن نحظى فی هذا السبیل ببرکات دعاء مواطنینا وتوجیهات الأساتذة والباحثین المحترمین.